محـمد السليم ومشهد الفن السعودي

خلدت أعمال الفنان محمـد السليم اسمه في تاريخ الفن السعودي، وبالرغم من ذلك، تكاد لا توجد أي قراءات فنية حول أعماله. فجوة النقد الفني هي إشكالية تواجه الوسط الفني السعودي، والعربي على مستوى أوسع. وفي ظل ذلك يعتبر تنقيب الأعمال التي خلفها الجيل السابق من الفنانين في المملكة ضرورة. نشاط الفنانين من جيل محمـد السليم لا يزال قائم، ولكن حال ما يكفي من الزمن لحصر الأجيال المختلفة من الفنانين في المملكة اليوم، وبالإمكان استدلال سيمات الجهود الفنية الحديثة عن المعاصرة للاختلافات في الأوساط الفنية والمواضيع كما الجمهور المستهدف.

يساهم الاطلاع على التاريخ الثري للفن السعودي في أهداف عدة: أولًا، تحديد سياق للجهود الفنية الحالية في السعودية، والسياق قيّم للجمهور الفني والفنانين المعاصرين على حد سواء. حاليًا، تطفو الجهود الفنية السعودية في فضاء مجرّد، بحاجة ماسة إلى إعادة الاتصال بالجذور الفنية للمملكة والخليج عامة، لإجابة سؤال: ما معنى أن ننتج فنًا سعوديًا، وللسعوديين؟ ثانيًا، الاطلاع ودراسة الأعمال الفنية السعودية السابقة يساهم في استكمال الحوار الذي بدأ في أوائل ستينات القرن الماضي، حيث يصبح الفن المعاصر في مخاطبة الفن الحديث، ليرسم دائرة تتمحور حول الشؤون المحلية. عوضًا عن مخاطبة الفن المعاصر العالمي، والذي يتسارع بدوره نحو المكاسب التجارية مما يشتت الهوية الشخصية للفنان، ناهيك عما يعنيه هذا للهوية الجماعية بشكل أعم.

نشهد اليوم تفاقم الاهتمام العالمي في أعمال محمـد السليم، محققًا أرقامًا قياسية في المزادات العالمية. حيث حطم عمل الفنان "بدون عنوان" الرقم القياسي لمبيعات الشرق الأوسط الفنية في مزاد سوذبيز عام ٢٠٢٣، بقيمة أكثر من مليون دولار امريكي. ليصبح أول فنان سعودي يتقاضى هذا المبلغ مقابل عمل فني. لكن، من كان محمـد السليم؟ وما قد تكشف نظرة أعمق إلى أعماله عنه، وعن المملكة، وعننا؟

ولد محمـد موسى السليم في محافظة مرات شمال غرب الرياض عام ١٩٣٩م/١٣٥٨هـ، وهو من أوائل الحاصلين على البعثات الخارجية الفنية عن طريق وزارة المعارف (وزارة التعليم اليوم) في ١٩٧٠م، حيث درس في أكاديمية الفنون الجميلة في فلورنسا، إيطاليا. وقد تولع بإيطاليا، عائدًا لها قرابة وفاته في ١٩٩٧ إثر سكتة قلبية، رحمة الله عليه. ما أنجزه محمـد السليم بين الزيارتين الأولى والاخيرة لإيطاليا يستدعي بذاته مجلدات عديدة. ما سأطرحه في هذا المقال هو السؤال الألّح في مشاهدة أعماله، لماذا الصحراء؟

قد يتوارد لأذهاننا إجابة مباشرة للسؤال، تكمن في سيادة الصحراء على الثقافة التشكيلية السعودية... وهي ليست إجابة خاطئة بالضرورة، لكنها سطحية. حيث اجتاحت الصحراء أغلب أعمال محمـد السليم، وكانت مصدر إلهام لم يضمحل لسنوات. يستوقفني هنا تساؤل حيال أي ظاهرة سبقت الأُخرى: هل هي اختزال الهوية السعودية بالبيئة الصحراوية أو تجلي الصحراء أمام الفنان السعودي، بالتحديد هنا محمـد السليم، كعنصر ساحر لا يجد الفنان مهرب سوى الانخراط به؟ تأويل أعماله كمجرد تجسيد لمنظر طبيعي يفتقر إلى تحليل وفهم الهوية السعودية لمحمـد السليم، وما قد تعني الصحراء لأبنها، وما قد يولد تلاشيها.

يقتضي التساؤل القاء نظرة أقرب على السياق الذي نشأ محمـد السليم في ظله. تزامنت ولادته مع تطورات اقتصادية في المملكة إثر ازدهار انتاج النفط، حيث أتم عامه العاشر في ١٩٤٩م، العام ذاته الذي بلغ إنتاج النفط الخام فيه نصف مليون برميل يوميًا. مما انعكس بالضرورة على النسيج الاجتماعي للمملكة، والأهم في هذه الحالة، المنظر الطبيعي. نشأة محمـد السليم في قلب المملكة تقتضي بالضرورة مشاهدته للتطور العمراني في المملكة، وما يترتب على ذلك؛ أي الاختفاء التدريجي للصحراء من الحياة اليومية. وقد تكون هذه البذرة الذي بزغ منها اهتمام الفنان في تمثيل صحراء المملكة، كمحاولة لترسيخ شكل الحياة اليومية في ذاكرته الشخصية، وفي ذاكرة المجتمع، والأجيال القادمة.

كيف تدعم هذه القراءة فهم أعمال محمـد السليم؟ عند استحضار السياق التاريخي لأعماله تكتسب سمة توثيقية بجانب كونها جمالية، وفي قلة الشهادات المشابهة تزداد قيمتها للمملكة وشعبها. اقتباسًا من نص محمـد السليم في معرضه الشخصي الثاني عشر "ليس جديرًا بالفنان أن يوجد شيئًا موجود، بقدر ما يبحث عن قيم مجهولة، وقد قصدت ذلك لأجد المميزات الطبيعية لبيئتنا السعودية". استنادًا إلى كلماته، تظهر الغاية في حفظ مشاهد الصحراء المجردة من أية عناصر سوى الأرض والسماء. رسم محمـد السليم الكثبان الرملية في جميع هيئاتها، باهتة صباحًا، مصفرة ظهرًا، وحتى انسحاب أشعة الشمس تدريجيًا من أعلاها آخر النهار، متوقدةً بتوهج نحاسي. في طيات الصحراء وجد أكثر من مئة تأويل، وتنوعت لوحاته في تمثيل مراحل اليوم، وصياغة نسبة الأرض للسماء. وفيما يخص هذا يقول الفنان "الانسان السعودي يتميّز ببيئة وطبيعة غنية بالعناصر الجمالية المميزة في الشكل واللون والكتلة والخط".

قضى اهتمام محمـد السليم في الصحراء أن تمتاز لوحاته بالتوجه الأفقي، تعبيرًا عن الامتداد الشاسع للمنظر الطبيعي، وتبدو الخطوط العريضة في لوحاته ممتدة الى خارج الإطار. مستحدثًا في هذا التقليد حركة فنية لُقبت بـ “الأفقية". كما تفاعل مع الحركات الفنية العربية الأُخرى مثل "الحروفية"، ومن أبرز من شكّل ملامح هذه الحركة الفنانة العراقية مديحة عمر والفنان السوداني إبراهيم الصلحي. تتفاعل الحروفية مع الحرف العربي بطريقة تتجاهل قواعد اللغة وتهتم فقط بإبراز خصائصه الجمالية، لتحرر بذلك الحرف العربي من أصفاد المعنى.

محمد السليم، بدون عنوان (١٩٨٦)

محمـد السليم، بدون عنوان (١٩٨٦)

يتجلى جوهر القراءة السابقة لمسيرة محمـد السليم في عمله الفني عام ١٩٨٦م "بدون عنوان". تصور اللوحة منظر طبيعي لطبقات الصحراء، يظهر الرمل فيها بدرجة من الأصفر المخضر قليلًا، ليستحضر بالذاكرة السعودية تفاوت أنواع الرمال، حيث لا تتشابه صفات الرمل في اللوحة مع الرمل المألوف تواجده في الصحراء، ذو اللون الدافئ والحبيبات الناعمة المنسجمة، فإن جمع بالكفين يجري كالماء مالئًا حفنتي اليدين حتى يفيض. بل يبدو أقرب لرمل المدينة الصناعي، الخشن، شاحب اللون يكاد لا يلتم في اليد قبل أن يتلاشى مع أول نسمة هواء. تختزل طبقات الرمل أمواج داكنة، كأن شيئًا آخر يجري بداخلها، أو بالأحرى يُضخ. تستلقي على امتداد اللوحة مستطيلات قرميدية، تشبه الأنابيب. لكن محور اللوحة هو الهيئات البشرية العالقة في متنها، بينما احداها مستلقية، تبدو الثلاث الأُخرى منهمكة في عمل غير واضح لنا، وربما لها كذلك. امتازت أعمال محمـد السليم المبكرة برسم دقيق للأشخاص، مما يؤكد أن غموض تفاصيل اللوحة ليس انعكاس لمهارات الفنان التشكيلية، بل أسلوب تعبيري متعمد. يبدو المشهد فيه أشبه بالجداريات الفرعونية التي تتلو نبوءات محتومة.

أتساءل كيف سيرى محمـد السليم حصائل الفن السعودي لو كان حاضرًا اليوم، هل يسير المشهد نحو رجاءه في أن "نرى فنًا أصيلًا كأصالة الانسان السعودي"؟ أم أصبحت الأصالة خصلة فنية منسية؟

تطرح أعمال محمـد السليم الكثير من الأسئلة التي تجعل قلة القراءات والتحليلات الفنية في أعماله أمرًا مُلِّحًا. بينما تتناول هذه المقالة أحد أطراف مسيرته الفنية الثرية، يتبقى الكثير الذي لُم يقال عن أعماله بعد.

هديل الخصيفي

هديل هي مؤسسة مجتمع حديث ومصممة جرافيك ووسائط متعددة

Next
Next

متحف الفن المصري الحديث